حضور الحسانية في الطوبونيميا السوسية: “دوار العرب” نموذجا

   ترتبط سوس مع المناطق الصحراوية خصوصا شمال الصحراء (واد نون) بعلاقات اجتماعية وثيقة وضاربة في القدم، وتعزى هذه العلاقات التاريخية المتجذرة، التي تتأرجح من علاقة تكامل الى علاقة تنافر حسب الظروف السياسية والمناخية السائدة، الى القرب الجغرافي بين سوس كبلد زراعي وواد نون كبلد رعوي، فاعتبارا لكون نمط العيش الصحراوي يقوم على الترحال، فقد ظلت سوس قبلتهم الأولى ومقصدهم الأول بحثا عن الماء والكلأ والمرعى للمواشي…

   توجد قواسم مشتركة كثيرة بين السوسيين والصحراويين أهمها كونهم يعيشون في مجالات جغرافية متجاورة تعتبر جافة أو شبه جافة بموارد طبيعية محدودة، مما فرض عليهم اتباع نمط عيش محكوم بالتقشف وتدبير الندرة.. فالسوسيون والصحراويون عاشا معا، تحت هاجس الرهبة والخوف من الجدب والجوع أثناء السنوات العجاف.. في المقابل، تتجلى نقط الاختلاف بين السوسيين والصحراويين، في كون الطرف الأول مجتمع زراعي يعيش من ما يجنيه من خيرات فلاحية بينما يعتمد الطرف الثاني على الرعي كنشاط رئيسي يرتكز على تربية الإبل والماعز وغيرها من الأنعام التي تمثل رأسمالهم الحقيقي وﺫلك منـﺫ تاريخ سحيق فقد وصف البكري الأندلسي أقدم قبائل الصحراء، (أي صنهاجة وهي مضيفة بنو حسان) بكونهم “لا يعرفون حرثا ولا زرعا ولا خبزا، إنما أموالهم الأنعام وعيشهم من اللحم واللبن ينفد أحدهم وما رأى خبزا ولا أكله الى أن يمر بهم التجار من بلاد الإسلام أو بلاد السودان فيطعمونهم الخبز والدقيق..”[1] فمن كان معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح، كان المقام به أولى من الظعن، وهؤلاء سكان المدر والقرى والجبال وهم عامة البربر والأعاجم، ومن كان معاشه من السائمة مثل البقر والغنم فهم ظواعن في الأغلب.. ويسمون شاوية.. أما من كان معاشهم في الإبل فهم أكثر ظعنا وأبعد في القفر مجالا.. وهؤلاء هم العرب.”[2]

   تنتسب اللهجة الحسانية، التي يتواصل بها الصحراويون، الى بنو حسان وهم عرب المعقل وهي قبيلة صغيرة كان عدد أفرادها أقل من مئتين عند دخولهم الى شمال افريقيا وهذا ما قاله ابن خلدون و “كان دخولهم إلى المغرب مع الهلاليين في عدد قليل يقال إنهم لم يبلغوا المائتين”..[3] يتصدر بنو حسان مجتمع البيضان(البيض الناطقون باللهجة الحسانية)، وهو مجتمع طبقات مغلقة على غرار المجتمع الهندي القديم..[4] يضم أيضا، طبقة “أزواي” (الزوايا) ثم طبقة “أزناگة” وهي اليد العاملة الرعوية.. لهـﺫا يحتقر بنو حسان العمل اليدوي ولا تهمهم سوى الفروسية والحرب..

البصمة الحسانية

    بعد زمن غير محدد من حياة الترحال والانتجاع من منطقة لأخرى، قرر جزء من الصحراويين الاستقرار بنقط معينة في عمق السوس الأقصى، مما ساهم في ظهور جيوب حسانية متفرقة على امتداد سهل اشتوكن ومصب واد سوس وهو مجال جغرافي ناطق بالامازيغية، ظهرت فيه تجمعات صحراوية، يتحدث سكانها باللهجة الحسانية ويرتدون الزي الصحراوي: الملحفة والإزار بالنسبة للنساء، والدراعة واللثام بالنسبة للرجال.. بل نبتت أضرحة لصلحاء صحراويين أشهرهم ضريح سيدي بابا المصلوحي البكاري السباعي المعروف لدى العامة باسم سيدي بيبي..

    تعكس الطوبونيميا السوسية حضورا مهما للعنصر الحساني/الصحراوي في عدة مواقع على امتداد الجغرافية السوسية.. حضور بارز ولافت يتجلى بشكل واضح في انتشار عدد من أسماء الأماكن باللهجة الحسانية على امتداد سهل سوس وسهل أشتوكن.. فعلى مستوى اكادير الكبير تنتشر أسماء أماكن مستمدة من الحسانية سميت بها المواقع التي استقر بها أوائل “الأعراب الصحراويين” بعد قدومهم الى المنطقة للانتجاع والرعي.. تتوزع الطوبونيمات الحسانية بين أحياء سكنية أو مجاري مياه الأمطار وحتى أسماء بلدات معروفة.. بالنسبة للتجمعات السكنية نجد “حي الخيام” وهي تسمية لا تحتاج الى أي تفسير، وربما أطلقت على المكان لكونه أول مربط لخيام الرحل الصحراويين بمدينة اكادير، كما يوجد واد معروف بنفس المدينة يحمل اسما حسانيا وهو “واد لحوار”، الـﺫي يخترق عاصمة سوس ويمر مجراه بجانب سوق الأحد، وتدل مفردة “لحوار” جمعه “حيران” في المعجم الحساني على الفصيل أي صغير الجمل منذ أن يُولد إلى أن يُفطم.. وفي المثل الحساني “لحوار ما يتبع لغروز (الناقة التي لا حليب لها).. ويبقى أشهر طوبونيم حساني بمجال سوس هو “دوار العرب” وهو اسم مكان لا يقتصر على الوسط الحضري فحسب، بل نجده كذلك بالوسط القروي كما هو الحال في سهل اشتوكن.. يليه، في الدرجة الثانية، طوبونيم “الدشيرة” وهي اسم احدى حواضر اكادير الكبير، فضلا عن قرية شمال تيزنيت تحمل بدورها نفس الاسم.. ولفظة “الدشيرة” في المعجم الحساني هي تصغير لمفردة “الدشرة” (القرية) وفق صيغة التصغير المعتمدة بكثرة في الطوبونيميا الصحراوية.. أما “الدشرة” فهي الصيغة الحسانية لمفردة “دشر” الامازيغية وتدل على نفس المعنى وهي تسمية أماكنية منتشرة على امتداد الجغرافيا المغربية من واحات الجنوب الى أعالي الريف، حتى أن أشهر أغنية لدى المغني الريفي خالد إزري تحمل عنوان “دشر ينو” (قريتي).. وكانت التسمية ترد في النصوص التاريخية بصيغة عربية “مدشر” وهي كلمة لا أصل لها في القاموس العربي.. ظلت تسمية “دشر” متداولة لدى المغاربة الى غاية القرن العشرين مع دخول الحماية الفرنسية، حيث أصدرت السلطات الاستعمارية قرارا إداريا يعمم اسم “دوار” على كل القرى المغربية الواقعة تحت سلطة الحماية الفرنسية… ويفسر انفراد مناطق الريف دون غيرها من جهات المغرب، بالاستعمال الواسع لتسمية “دشر”، بكون المجال المذكور لم يكن مشمولا بالقرارات الإدارية الفرنسية لكونه تحت سلطة الحماية الإسبانية..

 

“دوار العرب”

 

   قبل أن تعمم السلطات الاستعمارية التسمية على كل التجمعات السكنية بالوسط القروي، ارتبط اسم “دوار” بتجمعات الرحل، فقد كان يطلق على نقط استقرار الرحل، الـﺫين ينصبون خيامهم على شكل دائرة واسعة مع باب واحد للدخول، وهـﺫا التصميم يسمح بوضع قطيع الماشية في مركز الدائرة لتسهيل حراستها ليلا وكانت تلك التجمعات تعرف باسم “دوار” أو “دوارة”، وهي مقابل “درب” أو “حومة” في المدن..[5] ويعرف الموقع الـﺫي تنصب فيه خيام “الدوار” باللسان الأمازيغي ب: “تسمالت” (ومن عائلة نفس الكلمة نجد اسم “إداو سملال”) ومنها اشتقت اللفظة الفرنسية [6]la smalah التي يعرفها المعجم الفرنسي “لاروس” بكونها: “مجموع خيام زعيم قبلي مغاربي بعائلته وخدمه وجيشه وقطعانه ولوازمه”..

 اعتاد الصحراويين تسمية المواقع التي استقروا بها داخل المجال السوسي بنفس التسمية –دوار العرب- تمييزا لهم عن الساكنة المحلية الامازيغية وقد وجدنا هﺫا الطوبونيم بكثرة بالمجال المدروس، حيث عثرنا عليه عدة مرات في ضفاف واد سوس: آيت ملول، تيكيوين.. وكـﺫا ضفاف وادي ماسة.. لا تدل تسمية “أدوار واعرابن” لدى السوسيين على أية مجموعة بشرية سوى الأعراب الصحراويين وتحديدا بني حسان، الـﺫين كانوا “يحتكرون لفظة العرب لأنفسهم ويعتبرونها لقبا يدل على العظمة والقوة والبطولة والتضحية والشهامة. ومن ثم صارت حسان تسمية تطلق على كل مجموعة حملت السلاح فتخلقت بأخلاق عرب المعقل وسارت على نهجهم في الحياة وإن كانت هذه القبيلة صنهاجية الأصل.”[7] وتعد تسمية “دوار العرب” السائدة في المجالات الناطقة بالامازيغية مقابلا لتسمية “دوار الشلوح” التي تنتشر في المجالات الناطقة بالعربية العامية، وكـﺫا “دوار الشليحات” في المجالات التي تعمرها قبائل من أصول حسانية.. وقد أطلقت الطوبنيمات المذكورة لتمييز الساكنة الوافدة من قبائل لازالت ناطقة بالأمازيغية الى مجال جغرافي تم تعريبه سلفا، وإن كانت ساكنة التجمعات التي سميت بـﺫلك الاسم لن تعد تتواصل باللغة الامازيغية وان كان اسمها يوحي بـﺫلك…

    إﺫا كان تاريخ أقدم البؤر الصحراوية في سهل اشتوكن يعود الى بضعة قرون، فإن تاريخ ظهور بعض التجمعات حديث جدا، لا يتجاوز بضعة عقود مثلما هو الحال بالنسبة الى “دوار العرب” الكائن في تخوم وادي ماسة (والغاس سابقا). حسب الرواية الشفوية، فإن التجمع المذكور بدأ في التشكل بشكل تدريجي غرب الطريق الوطنية رقم واحد وﺫلك في مطلع التسعينات، كنقطة انتجاع لرعاة رحل وافدين من منطقة وادي نون وتحديدا قبيلة آيت أوسى وكانوا يقيمون داخل خيام متجاورة من القماش والشعر، قبل أن يكبر التجمع شيئا فشيئا بفعل توافد المزيد من السكان الصحراويين، بعدها تحول المكان الى دوار رسمي، بفضل توفر الظروف الموضوعية للاستقرار..

يبدو أن الصحراويين لم يختاروا المكان المذكور اعتباطا، بل بعد بحث وتقص مثلما يفعلون في اختيار مراعي المواشي، فالبيضان عندما يرغبون في الترحال الى مكان جديد، فإنهم يرسلون مستطلعين لارتياد الجهة المقصودة بغية التأكد من وجود الماء والكلأ بها”[8] فالموقع ليس أرض قابلة للزرع والفلح لأنها مغطاة بالفربيون الصباري أي الدغموس بالعربية، (“تيكيوت” بالأمازيغية)l’euphorbe cactoïde زيادة على كونها لا تنتمي الى أملاك الخواص بل تابعة لأراضي الجموع وقريبة من قرية غير متأصلة بالمنطقة، أي “المرس” التي تضم نازحين من القرى التي تم ترحيل أهلها لفسح المجال لإنشاء سد يوسف بن تاشفين مطلع السبعينات من القرن الماضي…. بعد سنوات قليلة، تعزز استقرار الصحراويين بالمكان، بسبب غياب مقاومة الأهالي المحليين وعدم إقصاء قرية الرحل من الاستفادة من البنية التحتية والخدمات الأساسية التي وفرتها الجماعة القروية لسكانها، حيث سمح للرحل ببناء بيوتهم بالمواد الصلبة بدل خيام الوبر والقماش، وبنيت أحواش للماشية عوضت الزرائب البدائية المسيجة بأغصان شجر السدر.. قبل أن يتم ربط القرية الجديدة بشبكة الماء الصالح للشرب والتيار الكهربائي.. وصولا الى بناء مسجد لأداء الصلوات الخمس بفضل تبرعات السكان، الـﺫين انتزعوا مكسبا مهما من الدولة في العام 2018 من خلال إنشاء مدرسة فرعية، بعدما ظل أبنائهم، يعبرون الطريق السريع يوميا، من أجل الوصول الى قرية مجاورة تقع شرق الطريق الوطنية، حيث يتابعون دراستهم..

ابراهيم اوزيــد

التتمة في مجلة “زيك ماغزين”، عدد 13، يونيو 2024

اضف تعليق