تتوفر بلادنا على مجموعة من الإذاعات الجهوية تغطي مختلف جهات المملكة ويناهز مجموعها 11 إذاعة: فاس، مراكش (1936)، الدار البيضاء (1938)، تطوان (1944)، طنجة (1946)، وجدة (1962)، اكادير(1971)، العيون (1975)، الداخلة (1980)، مكناس (1999)، الحسيمة (2009)، منها ثلاث إذاعات فقط تبث جزءا من برامجها بالامازيغية: اكادير )منـﺫ 15 أكتوبر 1971)، تطوان، (منـﺫ مارس 1984) الحسيمة (منـﺫ 29 أبريل 2009). رغم كثرة عدد الإذاعات الجهوية فإنها تبقى تعددية شكلية تستنزف موارد الدولة وتقدم محتوى هزيل وفاشل.. فشل يعزوه المتخصصون الى “فقدان العاملين بالمحطات الإذاعية هامش الحرية في الاشتغال والتفاعل أكثر مع المواطنين، بعد عقود من الاشتغال تحت وصاية وزارة الداخلية، وتعدّد الخطوط الحمراء الملزِمة للعمل وفق سياقها[1]..”
تجر بعض الإذاعات تاريخا عريقا يفترض أن تكون وصلت فيه الى مرحلة الكمال والنضج ومنها إذاعة اكادير الجهوية، التي احتفلت باليوبيل الذهبي لتأسيسها قبل سنوات قليلة… وهي مناسبة لتقييم التجربة الإعلامية للإذاعة ووضعها تحت مجهر التشريح والنقد والتحليل.. وهو ما سنفصله في هذه الورقة المتواضعة، مع التركيز على الإعلام الامازيغي، الـﺫي تمتاز به الإذاعة المذكورة عن غيرها..
صرح إعلامي قديم
في فجر الاستقلال، توقفت إذاعة مراكش الجهوية عن بث البرامج الامازيغية (مختارات من الأغاني)[2] وبالتالي أغلقت كل المنافذ أمام الإعلام الامازيغي بالجنوب المغربي الي غاية إحداث إذاعة اكادير الجهوية في العام 1971 التي وفرت نافذة صغيرة للجمهور الأمازيغي.. ظهرت الإذاعة المذكورة في زمن سنوات الرصاص وتهميش كل ما هو أمازيغي بشكل متعمد حيث كانت الإذاعة مجرد وسيلة للترفيه السطحي بدون أي مضمون هوياتي صريح ووسيلة لإنتاج أغاني الروايس والمجموعات العصرية التي ظهرت آنذاك في منطقة سوس[3].. تتكون الإذاعة من مصلحة الإنتاج العربي/الامازيغي ومصلحة البث، فضلا عن مصلحة خارجية في آيت ملول أي مركز البث الإذاعي.. منـﺫ 14 يوليوز 2017 رفعت إذاعة اكادير مدة البث من ثمان ساعات يوميا الى 24 ساعة باللغتين العربية والامازيغية على القمر الصناعي هوت بورد بتردد 10872 عمودي أو على البث الأرضي على الموجة FM 87.90 منها 14 ساعة من البرامج و10 ساعات من البرمجة الموسيقية..
يتمثل حوض الاستماع بالنسبة لإذاعة اكادير الجهوية في جهة سوس ماسة وجزء من جهة واد نون وهو مجال جغرافي ناطق في مجمله بالأمازيغية، وإن كانت بعض المناطق داخل جهة سوس نفسها مثل دائرة إغرم (17 جماعة قروية) بإقليم تارودانت، لازالت محرومة من إلتقاط برامج الإذاعة الجهوية.
بدأت الإذاعة مسيرتها بتقديم خدمة إعلامية لبضع ساعات في اليوم، كانت تبث ثلاث ساعات من البرامج كل يوم مقسمة بالتساوي بين العربية والامازيغية وطبعا المدة الزمنية الممنوحة لها لم تُعطِها الفرصة للتفاعل أكثر مع المستمعين، وفي التسعينات ارتفعت مدة البث الى 6 ساعات في اليوم بمعدل ثلاث ساعات للبرامج العربية ومثلها للبرامج الامازيغية، بعدها ارتفعت مدة البث في مطلع الألفية الثالثة الى ثمان ساعات يوميا بمعدل أربع ساعات للبرامج العربية ومثلها للبرامج الامازيغية الى غاية يوليوز 2017 حيث تم الانتقال الى البث المسترسل لمدة 24 ساعة.
رغم ضعف الإمكانيات التقنية، حيث لا تتوفر الإذاعة إلا على استوديو وحيد للبث والتسجيل، عكس إذاعة مراكش التي تتوفر على اثنان وإذاعة وجدة التي تمتلك ثلاثة استوديوهات…عاشت إذاعة اكادير أوج قوتها خلال التسعينات حيث كانت تتوفر على شبكة من المراسلين في مختلف الأقاليم: محمد مبارك بوالله كلميم/آسا، عزيزة يحضيه من طانطان، محمد دادسي من تيزنيت، مبارك ادمولود من طاطا خالد لوزيعة من اشتوكة ايت باها.. فقد شهدت بداية التسعينيات نوعا من الانفراج في مستوى الخطاب الإعلامي، إذ عُرف عن إذاعة أكادير مثلا إنتاجها لبرامج كان لها حضور قوي على المستوى الوطني، كبرنامج الثقافة الشعبية للأستاذ “بزيكا”، الذي أسس لعمل أكاديمي عن طريق الإذاعة، للعناية بهذه الثقافة، والأستاذ محمد العثماني في برنامج “في رحاب الفكر[4]”
تعد إذاعة اكادير مدرسة تخرج منها العديد من الصحفيين المرموقين وكذا أساتذة جامعيين وكانت بحق مدرسة الإعلام المتميز، مر منها علماء ومثقفون من أمثال الاستاذ محند العثماني وشقيقه محمد العثماني (الاول والد سعد الدين العثماني والثاني عمه)، والأستاذ ميمون والمرحوم تتكي والمرحوم عبدالله نظيف دون أن ننسى أحد الذين لاتزال اذاعة اكادير تقتات من مجهود عطائهم وهو الصحفي المرموق عبدالله أسفار، الذي كان له الفضل في إعادة بعث القسم الامازيغي، أو “قسم تاشلحيت” كما يسمونه، بعد غيبوبة عاشها بعد وفاة عبدالله نظيف الملقب بعمي موسى[5]..
الشكل يفضح الجوهر
في الجانب الشكلي أيضا، لا يزال الخطاب الإعلامي للإذاعة يحظر استعمال مفردات معينة تصنف ضمن الطابوهات، ومنها مصطلح الامازيغية ومشتقاتها ويستعملون بدلا عنها لفظة “تاشلحيت” ربما تنقيصا وتقزيما للغة الرسمية الثانية، في حين لا تتم المعاملة بالمثل بالنسبة للبرامج العربية وإن كانت تقدم بالعامية (الدارجة).. كأن صحفيي الإذاعة توقف بهم الزمن في فترة وصاية وزارة الداخلية والاعلام التي تحاسب الإعلاميين حسابا عسيرا على أية كلمة خارج الاطار العام تقال في الإذاعة ومنها تمازيغت، أمازيغ، الثقافة الامازيغية..
رغم أننا نعيش عصر الثورة الرقمية، فإن الإذاعة لا تتوفر على موقع رسمي على الانترنيت، بل لا تمتلك حتى صفحة فايسبوكية كأضعف الايمان وحتى الصفحة غير الرسمية التي تحمل اسم إذاعة اكادير الجهوية، تضم محتوى تافه لا علاقة له بالإعلام (وصفات من المطبخ المغربي)…
بدعة “البث المزدوج”
تقترح الإذاعة برمجة عامة للقرب موجهة بالأساس لجمهور أكادير والنواحي، تشمل برامج إخبارية وترفيهية. تظل البرامج الامازيغية هي نقطة تميز الإذاعة الجهوية، لأن البرامج العربية منتشرة بكثرة في باقي الإذاعات الوطنية والدولية، لـﺫلك ينتظر السوسيون موعد انطلاق بث البرامج الامازيغية على أحر من الجمر. عرفت الإذاعة ببث برامجها بالعربية والأمازيغية نهارا، مع تخصيص حيز زمني معين لكل لغة، فتبدأ البرامج الامازيغية مجتمعة بعدما تنتهي البرامج العربية الى غاية نهاية البث، وبالتالي كانت الحرية ممنوحة للمستمع لمتابعة ما يروقه.. وكان توقيت البث المعتمد يسمح للمستمع السوسي بتتبع البرامج الامازيغية نهارا على أثير إذاعة اكادير وليلا على أثير الإذاعة الامازيغية بالرباط.. لكن بعد اعتماد بث البرامج الامازيغية بشكل متفرق وتعويمها وسط بحر من البرامج العربية فيما سمي ب”البث المزدوج” وهي من البدع المستحدثة في عهد المدير الحالي، اضمحلت نسبة البث الامازيغي بشكل كبير وصار من يبحث عن برنامج أمازيغي كمن يبحث عن إبرة في كومة قش.. الشيء الـﺫي جعل المستمعين الأوفياء ينفرون ويغيرون مؤشر المذياع نحو إذاعات أخرى خصوصا الإذاعات الخاصة التي ظهرت في الآونة الأخيرة.. وقد نقلت إذاعة اكادير ما يسمى ب”البث المزدوج” من إذاعة “ميدي آن” Medi 1 التي تعتمد البث المختلط فرنسي /عربي في برامج محدودة، بينما اعتمدته إذاعة اكادير في معظم برامجها.. ويرى متتبعون، أن “البث المزدوج” مجرد حيلة لإجبار المستمعين السوسيين على متابعة البرامج العربية، وهي برامج لا تحظى عادة بمتابعة كبيرة في جهة ﺫات غالبية أمازيغية، فضلا عن كون شريحة مهمة من السكان لا يفهمون مضمون البرامج المذكورة، كما يظهر بجلاء من اتصالاتهم الهاتفية خلال البرامج التنشيطية المفتوحة..
تقلص نسبة البث الامازيغي بالإذاعة يعزى أيضا، الى عدم تمكن الموارد البشرية بالقسم الامازيغي بالإذاعة المسمى “قسم تاشلحيت”، من اللغة الامازيغية معجما ومحادثة، مع أن أبواب التكوينات المجانية مفتوحة لدى معهد ircam لتحسين قدراتهم واكتساب المعجم الإعلامي الامازيغي. إعلاميون مخضرمون وجدد، تحس أنهم يقومون بمهمة لا يحبونها أو غير مقتنعين بها، مهمة فرضت عليهم فرضا، ينظرون الى الامازيغية كشيء ثانوي مثل الخضرة فوق الطعام.. وعليه، فإن عدد البرامج المنتجة بالامازيغية ضعيف وكـﺫلك نشرات الأخبار، حيث لا تتجاوز ثلاث نشرات وهي في الحقيقة نشرة واحدة يعاد بثها في فترات زمنية متفرقة، مقابل خمس نشرات بالعربية منها نشرة من الإذاعة المركزية بالرباط. فيما تنعدم المسلسلات الإذاعية بالأمازيغية بشكل تام.. وحتى البرامج التي تلقى إقبالا لدى المستمعين مثل “روائع الغناء الامازيغي”، فتتم برمجتها في وقت جد متأخر من الليل (الساعة الواحدة صباحا) كما تفعل القناة التلفزية الثانية مع الأعمال الدرامية الامازيغية.. في حين تبرمج الإذاعات الخاصة نفس الفقرة في أوقات ﺫروة الاستماع (الساعة الحادية عشر صباحا) كما تفعل إذاعة “أزوان” المتخصصة في الموسيقى.. ناهيك عن غياب البرامج الصحية والتوعوية وحتى الدينية بما في ﺫلك يوم الجمعة، في جهة تعج بمئات المدارس القرآنية العتيقة وآلاف الفقهاء وحفظة القرآن الكريم.. كما تغيب الاحترافية في تقديم البرامج الامازيغية التي تقدم مصحوبة بأغاني عربية، ويبث جلها بدون جنريك Générique سواء في الافتتاح أو في الاختتام، حيث لا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن موسيقى صامتة يعرف به البرنامج، ويعمدون الى اقتطاع أجزاء من أغاني الروايس أو المجموعات السوسية ويوظفونها كجنيريك مزيف… فضلا عن ركاكة الخطاب المستعمل الـﺫي تحتل فيه المفردات العربية نسبة 60 في المائة، فيستعملون ألفاظ عربية، ويتركون مفردات أمازيغية قحة من شأنها تعويد المستمعين على اللغة الفصيحة كما عودتنا الإذاعات المحترمة.. وحتى عبارات الربط بين الفقرات لم تسلم من الركاكة حيث يكررون باستمرار، عبارات مشوهة ليست أمازيغية ولا عربية مثل: “ضفورات ليداعة تجيهاويت نوكادير” عوض عبارة dfurat radio amsgawan n’ogadir
وتبقى نقطة الضوء الوحيدة في الإذاعة، هي ما يقدمه المتعاونون الخارجيون من برامج جيدة، شكلا ومضمونا: “تاوسنا تمازيغت” الـﺫي يقدمه محمد أكوناض، منـﺫ العام 1993، البرامج الرياضية التي كان يقدمها مبارك إدمولود من1995 الى غاية فبراير 2023، قبل أن ينهي تعاونه مع الإذاعة ويحل الحسين العلالي محله.. علما أنهم يتقاضون تعويضات هزيلة مقارنة مع نظرائهم في إذاعات جهوية أخرى، لأن الإذاعة لا تشجع الكفاءات..
الغريب في هذه المحطة العجيبة أن معظم البرامج مشتركة يتناوب على تقديمها إعلاميون من القسم العربي والقسم الامازيغي، فيتم البث اليوم بالعربية ويتم غدا بالأمازيغية، في سلوك يكشف عن انعدام الموهبة وحس الابداع.. وهذا هو السر في تكرار نفس البرامج كل يوم، أغلبها تعتمد على مشاركات المستمعين ولا تقدم أية فائدة للجمهور سوى “تقرقيب الناب” عبر المكالمات الهاتفية كما هو الحال في عدد كبير من البرامج: منبر المستمع، تواصل، صوت المواطن..
ابراهيم التزنيتي
تتمة المقالة في عدد مارس من مجلة “زيك ماغزين”
اضف تعليق