صحفي إسباني يقابل أحفاد المعتمد بن عباد وأحفاد أبي عبد الله الصغير

في عام 2010، قام الصحفي الإسباني إنمانويل كاماتشو Enmanuel Camacho بزيارة إلى مراكش وتطوان في المغرب للقاء أحفاد المعتمد بن عباد وأبي عبد الله الصغير. وقد دوَن تفاصيل هذه الزيارة في مقالة له بعنوان “بحثا عن الملوك المنسيين” En busca de los reyes olvidados. ونشره يوم الأربعاء 22 دجنبر 2010 بموقع “360 grados Press” الإسباني، مرفوقا بصور التقطها خلال هذه الرحلة الفريدة. وهذه ترجمة لما جاء في هذا المقال:

سنذهب إلى المغرب للقاء أحفاد ملك إشبيلية الشاعر وأحفاد آخر ملك مسلم لغرناطة. لما أَوكلوا إلي مهمة لقاء أحفاد المعتمد –ملك إشبيلية الشاعر – وأبي عبد الله – آخر ملك مسلم لغرناطة- لم أستطع إخفاء تكشيرة ساخرة مُحتشمة كانت أشبه بالابتسامة. وضعتُ في حقيبة الظهر بعض الملابس، دفترا وحاسوبا محمولا، وفي غضون ساعات وصلتُ إلى مراكش قادما من إشبيلية في صبيحة يوم ساخن. كانت مغادرة المكتب بالنسبة لي بمثابة مَكرُمَة.

لستُ أول من يقوم بهذه المهمة. فقد سبقني إلى ذلك قبل 30 عاما أحد أساتذتي، الصحفي راموس إسبيخو، وقبل تسعين عاما، وفي أوج حرب الريف، حَجَ إلى هناك بلاس إنفانتي أب الوطن الأندلسي. وكذلك فعل ابن الخطيب شاعر الأندلس العظيم و وزير سلطان غرناطة في القرن الرابع عشر ميلادي. أمام جلال قدر هؤلاء الرحالة، استشعرتُ نوعا من المسؤولية.

أغمات

كان المعتمد أرقى ملوك الطوائف. كانت فترة حكمه صفحةً من العظمة. فبينما كانت أوربا تستعد للاحتراق في لهيب التعصب الديني ومحاكم التفتيش، كان مهرطقو الجنوب ينيرون الدنيا من منارة أناقته وثقافته. مات المعتمد سجينا ومطرودا من معشوقته إشبيلية من طرف متعصبين آخرين، هم إخوانه أمازيغ الصحراء. لقد قضى في أغمات، البلدة الواقعة في وادي أوريكا على سفح الأطلس الكبير. لقد انبجس شِعرُهُ من رحم الألم ودماء أبنائه ومن نير الحسناء اعتماد، تلك الأمَة التي أصبحت أميرة ثم عادت مرة أخرى أمة.ً

خلف الشارع الرئيسي لبلدة أغمات، يوجد “قبر الغريب”. بعد تكريم رُفاته، سرتُ بين الدُور الطوبية القديمة حتى وصلتُ لدار عائلة الدكالي. كنت أحملُ معي صورا فوتوغرافية قديمة، تعرَّفَ فيها حسين الهزميري دكالي على أقاربه وعلى نفسه أيضا. يعمل حسين موظفا في المقاطعة (الدائرة الحكومية). وهو ينتمي لسلالة تُعتبرُ حارسة بقايا المعتمد. ورغم عدم تفاخره بأصوله النبيلة، يختزن حسين في قرارة نفسه كبرياء الانحدار من نسل آخر ملك لإشبيلية.

مسكنُ آل الدكالي عبارة عن منزل متواضع لفقراء قرويين. كانت ربة البيت، هنية، تبدو أكثر اعتيادا على الأجانب من باقي نساء العائلة اللواتي بقينَ في الظل. أعدتُ معهم نفس الأمر. لقد أيقظت صور الماضي ذكريات من لم يعُد لهم وجود. قدمت لنا هنية ما تملكه. كانت يداها الخبيرتان والصلبتان تُحضران الشاي ومشروبا مريرا بعض الشيء مُعد من الجبن والماء. إنها ضيافة الفقراء. أو هي ربما، عظمة بيت الملوك.

تركتُ خلفي بلدة أغمات ومعها الاطلس الكبير، معقل المعتمد. على بُعد بضع عشرات من الكليومترات كانت ساحة جامع الفنا بمراكش تتزين لاستقبال المساء. أكشاك النهار تترك مكانها لعربات الأطعمة العربية، للمجاذيب، للمُداوين، للوشامين، للبهلوانيين، للحكواتيين ولمروضي الثعابين. إنه مكان مفعم بالأحاسيس. أما الكتبية، معلمة المدينة وشقيقة الخيرالدة، فتقف صامدةً في وجه الزمن. للحظات، يتوقف القرع المتواصل للطبول فاسحا المجال لساعة الصلاة. لقد حان وقت التوجه نحو الشمال.

ما تزال تطوان تفتخر بأصولها. الفخامة الكولونيالية لشوارعها ذات الطراز الإسباني تتعارض مع المدينة القديمة، الأقل انفتاحا على السياحة، بحيها اليهودي القديم والشبه منسي. أبو عبد الله، آخر ملك للأندلس، مات يحمل تعاسة تسليم غرناطة للملكين الكاثوليكيين. لكن منفاه كان طيبا، كما أنه حضي بتشريف الملوك عند وصوله إلى هذه الأراضي. هذه المدينة متاهةٌ من المنازل العنقودية والأزقة المتشابكة. مشيتُ في زقاق النجارين المكتظ؛ فللضوضاء في مدينة تطوان كامل السيادة. كما أنه ليس من السهل السير وسط عربات الأطعمة ومحلات بيع الجلود والملابس والصناعة التقليدية.

مرت الآن حوالي 90 عاما على تعرف “بلاس انفانتي” هنا على أحمد الأحمر، سليل أبي عبد الله، كما مرت سنوات قليلة فقط على وفاة ابنه محمد. كما رحلت معهم ربة البيت عائشة. مع ذلك، ورغم الفواجع، لازال محل النجارة العائلي في مكانه. لقد خلد عبد القادر الأحمر التراثَ. بيديه الصلبتين ينحت الخشب في محل بسيط. هو أعزب ولا عقب له. هذه الزيارة حركت عواطفه. أما شقيقه محمد، فقد قارب الثمانين عاما، رأى خلالها الكثير. هاجر إلى بلجيكا لأنه، حسب قوله، لم يكن يجد ما يأكله. وهناك ربى أبناءه الأربعة: بنتان وولدان. لقد شتتت الحَاجَة عائلة الأحمر. إلى درجة أن البعض منهم ركب زوارق الهجرة.

 

محمد الاحمر سليل أبي عبد الله آخر ملوك غرناطة المسلمين

 

بوفاة الوالد محمد، توقفت عائلة الأحمر عن المطالبة بماضيها. فأبناؤه رجال بسطاء لا يعرفون سوى ما ذُكرَ (عن والدهم)  قبل أعوام في قصاصة جريدة: “محمد الأحمر، ملك غرناطة”. أما المؤرخون فلا يجرؤون على التأكيد بأن النجار وأخاه هما من سلالة أبي عبد الله. ورغم استمرار الشكوك، إلا أنه من الصعب تفادي قشعريرة عند التفكير في أنه ربما في دم هذين الرجلين تجري دماء سلالة أكثر من 20 ملكا لغرناطة. غادرتُ تطوان وعيونها الأندلسية في المساء.

الآن، أتساءلُ في المكتب –أمام هذه الشاشة القاسية- عما هو صحيح وما هو غير ذلك في هذه القصة. لقد عبث الزمن بالأثر، فلم يترك شهودا ولم يحفظ أدلة. لا وجود لوثائق ولا أثر لسِجلات، فلا أحد اعترف بهم، ولا أحد أفتداهم. وكأن دموعَ الملكَينِ المطرودَينِ من الأندلس ما تزالُ تنهمرُ على حاضر هؤلاء الرجال والنساء، الذين يحملون دماءهم. إنهم بحقٍ الملوك المنسيون.

ترجمة: هشام زليم

مدونة “صلة الرحم بالأندلس”

اضف تعليق