كانت تيزنيت مركز خليفة السلطان منذ نهاية القرن التاسع عشر، وكانت قبل تسويرها عام 1882 إثر الحركة الحسنية الأولى، عبارة عن مجموعة منازل تتخللها بساتين..[1] استأثرت هذه المدينة بالاهتمام، بعدما بويع فيها احمد الهيبة بن ماء العينين، أميرا للجهاد ضد الفرنسيين… فبعد التوقيع على معاهدة فاس في 30 مارس 1912، تمت تنحية مولاي حفيظ ليحل محله أخوه السلطان مولاي يوسف. فاجتمع على أحمد الهيبة أهل سوس واكتظت مدينة تيزنيت بالحشود، فتوافدت عليه القبائل أبرزها قبائل آيت باعمران، الأخصاص، إفران، مجاط، ولتيتة، جبال جزولة، أقا، أزغار، إداوزيكي، إداوتنان..
من هو الهيبة:
ولد احمد الهيبة بن ماء العينين في 9 شتنبر 1877 بمدينة “ازوكي” ب”أدرار” في موريتانيا، وقيل بمضارب والده الشيخ ماء العينين بالساقية الحمراء، ووالدته هي ميمونة بنت احمد بن علي، وهو الحادي عشر من أولاد الشيخ ماء العينين.. أخذ عن والده وعن الشيوخ الكبار، الذين كانوا يصاحبون والده، علوم اللغة العربية وعلوم الشريعة الإسلامية.. وصاحب كبار العلماء وكان يصاحب أباه في أسفاره نحو المغرب وفي وفادته نحو الملوك العلويين فعرف الناس وعرفوه وطار صيته.. وكان له طموح أن يشغل مركزا تشير إليه به الأصابع[2] بعد وفاة والده سنة 1910 بتزنيت قام مقامه في تربية المريدين عبر الزاوية المعينية وجمع عليه تلامذة والده.. وكان يكاتب السلطان مولى عبد الحفيظ ويظهر له أنه عضده بسوس..
بدأت دعوة الشيخ الهيبة بعد أن استولى الفرنسيون على أجزاء من المغرب، وقال أصحابه: إن المنقذ الصالح هو الهيبة واستغلوا الأخبار الواردة من فاس، والمتعلقة بالأحداث التي وقعت فيها، والتي ضخموها وادعوا أن مولي عبد الحفيظ قتل، وأن الأمة أصبحت بدون إمام، وأنه لا تصح صلاة المسلم بدونه، فجمع الشيخ الناس ليختاروا لهم إماما، فقام أصحابه فبايعوه..[3] وقد جرت البيعة بالمسجد الأعظم بتزنيت رغم أن البيعة لم تكن تامة، إذ عارضها بعض القواد مثل عبد السلام الجراري وسيدي محمد بن الحسين اوهاشم..
شارك فقهاء سوس في تعزيز ركب الهيبة، “الذي بنى حركته على الغيبيات والتسابيح والتهاليل في الشتاء والصيف، ونقش الجداول في الطرقات، وما يقال عليها من العزمات، من كل ما يستعملونه من الخرافات[4] حيث وفد عليه فقهاء شتوكة يتقدمهم العالمان سيدي عابد البوشواري والفقيه سيدي محمد أوعبو في 36 بغلة فقطع الشك باليقين وبويع الشيخ سلطانا وإمام للمجاهدين يوم 3 ماي 1912 وبدأت وفود القبائل تتوارد على تيزنيت حاملة هداياها إليه.. كما حظي الهيبة ببيعة الفقيه الشهير سيدي الحبيب التنالتي (م1977)..
وقبل خروجه الى مراكش، عين احمد الهيبة شقيقه الشيخ النعمة بن ماء العينين خليفة له، يتولى الأمور بمدينة تيزنيت.. خرج أحمد الهيبة مع أتباعه من تيزنيت فاتح شعبان 1330ه(14يوليوز1912) وقطعوا المسافة بين تيزنيت ومراكش في مدة شهر وثلاثة أيام، إذ وصلوها يوم السبت 3 رمضان (17 غشت)، قطعوا المسافة في 14 مرحلة أو نزلة، وفي كل نزلة يمول أهل المنطقة الجيش..[5] وساعدت الأحوال التي كانت سائدة في مراكش وأحوالها الهيبة في دخول المدينة بدون حرب أو قتال.. بعد دخول الهيبة مراكش حصل توجس لدى الفرنسيين لأنه لم يكن لهم من الجيش ما يواجهون جيش الهيبة العرمرم وكانت الاشاعات ضخمت من قوته..
حشد ليوطي قواته في مشروع ابن عبو للزحف على مراكش، ودرس هناك ما يجب اتخاده من الاحتياط، وقد سافر الجنرال بالتموبيل المدرع..[6] وبلغ عدد قوات فرنسا خمسة آلاف فردا بين فارس وراجل منهم وحدات سينغالية وجزائرية ومغربية وكلهم مدربون أحسن تدريب، وتحت قيادة ضباط محنكين تخرجوا من مدارس عسكرية على رأسهم الكولونيل مانجان.. وضع الفرنسيون بقيادة مانجان احدى عشر فرقة من المشاة في مشروع ابن عبو، وبطاريتين جبليتين، وبطارية راكبة، وفرقة الخيالة الصباحية، وفرقة من الزواف، وفرقتين من الترايور، وفرقة من الصبايهية وأوكل الى الى الكولونيل مانجان الاستعداد للقيام بكل ما سوف يأمر به..[7]
في مقابل الاستعداد الفرنسي، كان الهيبة مستخفا بهم وظل منشغلا بالطقوس الملكية وغارقا في أوهام الكرامات حتى أن الشيخ أجاب الذي جاء ليخبره بمؤامرة قواد الحوز: أنه منصور بأمر الله وبإذنه، فلا يبالي بهم ولا بالمئات من أمثالهم..[8] كما أجاب الشيخ أبو شعيب الدكالي لما قال له أن هذا العصر عصر القوة والمغالبة: أجابه بديهيا وقد هز سبحته: “بهذه السبحة أفتح القاهرة ودمشق”..[9] كما انشغل الهيبة بالبحث عن الأبكار ليتزوج بهن، فما أن جلس على أريكة الملوك، حتى استدعى ادريس منو فصار يستدرجه في الكلام حتى بلغ به خبر الشريفات الأبكار.. فصار كلما ذكر له إحداهن أخبره بأنها متزوجة في عنق فلان..[10] أما الأعراب فقد اشتغلوا بالنهب والفساد، وكان منهم من يأكلون في نهار رمضان ويقولون إننا مجاهدون، وبعضهم يميل في وسط رمضان الى ديار الفساد، والناس ينظرون فيرغم الساقطة التي تألف احترام رمضان، فيرجع بإثمه بحجة أنه يستحل ذلك بجواز نكاح المتعة، الذي كان مألوفا عندهم[11]
لقد كان الهيبة مشغولا ولما أراد الجيش الخروج لمواجهة الفرنسيين أسند قيادته الى من لا خبرة له في المعارك ويتعلق الأمر بأعرابي يسمى ولد مصباح، لا يفقه للحرب لا قبيلا ولا دبيرا..[12] كانت كل قبيلة تقدم العدد المناسب من أفرادها لتشكيل جيش الجهاد حسب أعداد القبيلة، فالكبيرة تقدم في حدود 50 فارسا والصغيرة على حسب عدد أفرادها وأن يكون الفارس مجهزا بكامل الأسلحة والعتاد[13] كان عدد قوات الهيبة في البداية زهاء 5000 ألف فرد ثم بلغ العدد مائة ألف عقب الاستيلاء على مراكش.. كان المجاهدون يستعملون أسلحة بسيطة لا تقارن بأسلحة الفرنسيين فهي مكونة من الأسلحة البيضاء: الخناجر والسيوف والقادومات والمناجل والمدرات أو أسلحة نارية خفيفة: أربعة مدافع من صنع ألماني، ومدفع رشاش واحد، وألف بندقية تقليدية تعبأ بالبارود من الفوهة، أما أغلبية رجاله فكانوا مسلحين بالعصي والحجارة، حسب تقارير الاستخبارات الفرنسية..[14]
هزيمة الهيبة تفكك عقد القبائل المناصرة له
قبل الهزيمة الحاسمة في معركة سيدي بوعثمان في 6 شتنبر 1912 خاض المجاهدون معارك أخرى: الأولى وقعت يوم 16 غشت 1912 في صخور الرحامنة ثم الثانية في بئر أوهام في 30 غشت.. أمر الهيبة أخاه مربيه ربه بالنهوض لمقابلة الفرنسيين صحبة جموع كثيرة من الفرسان والمشاة، فبنى خيمة بباب الخميس، وظلت الجموع تتلاحق به هناك.. ثم انتقلوا الى سيدي بوعثمان، خارج مراكش، بنحو خمس ساعات، وخيموا هناك، وكان يعدهم بالنصر بعد خروج رمضان، حيث تسرح مردة الجن خدامه، الى غير ذلك من الخرافات المختلفة، وأنه لا يتضارب معهم (الفرنسيين) إلا بعد ليلة سبع وعشرين من رمضان، ففي صبيحة يوم 24 منه وقعت بينهم وبين الحملة الفرنسية، معركة هائلة، كان القرطاس فيها يتقاطر كتقاطر المطر الوابل، والمدافع تسمع قعقعتها كالرعود القاصفة، ودام ذلك نحو ساعة ونصف، وكان مربيه ربه يدعو ويرمي في وجوه الحملة، تشبيها بما فعله النبي (ص)، فأحاطت الحملة بهم، ففروا أمامها، واحتوت على محلتهم بما فيها، وسمعت قعقعة المدافع بمراكش، وارتاع أهل البلد، وخرجت الخيل الباقية معه لإغاثتهم، ثم أشيع أن الحملة انهزمت، بعدما كانت غلبت.. وفي الغد تبين أن تلك الجموع توجهت الى حال سبيلها ناجية بنفسها، ولم يبت معها خارج البلد أحد، بعد أن كانت هذه الواقعة في المحل المعروف بنزالة العظم، ومات فيها عدد كثير من المقاتلين، ورجع أخوه مربيه ربه الى مراكش من ليلة 25 منه (رمضان) وفي صبيحة تلك الليلة فروا من مراكش، وقصدوا جبل درن، على طريق كيك..[15] تفكك الحلف القبلي الذي يساند الهيبة، فانضم القواد الكبار الى المخزن ليحافظوا على مصالحهم بتشجيع من باشا مراكش الكلاوي..
وفاة الهيبة:
توفي الهيبة بن ماء العينين بأكردوس ظهر الثلاثاء سبعة عشر رمضان عام 1337 (1919) مرض أياما فقضى نحبه، واستراح من الكلف والمحن، بعد أن تلقاها باليدين، وجر معه السوس للحين، فكان نقمة على سوس، حتى حله السوس، وأصابهم من أجله كل بؤس، ظاهرا فيه محسوس..[16] وختم الاكراري بهذه الأبيات الشعرية وهي تعريب لمثل أمازيغي شائع في سوس:
إذا ما عدوك يوما سما © الى حالة لم تطق نقضها
فقبل ولا تأنفن كفه © إذا أنت لم تستطع عضها
ⴰⵢⵢⵣ ⵏⵏⴽ ⵎⴰⵙ ⵍⵃⵓⵙⴰⵢⵏ ⵅⴼ ⵉⵎⵓⴽ ⴰⴷ ⴳ ⵓⵎⵣⵔⵓⵢ ⵏⵏⵖ ⵍⵍⵉ ⴷ ⵢⴰⵥⵏ,