الذكرى التسعون لصدور ظهير 16 ماي 1930: كيف تحول قانون فرنسي الى “ظهير بربري”؟

“يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكنك لن تستطيع خداع كل الناس كل الوقت”.

إبراهام لينكون (الرئيس ال16 للولايات الأمريكية)

 

كان النظام القضائي في عهد الحماية الفرنسية، يتميز بتعدد المحاكم ويتجلى هذا التعدد في وجود ستة محاكم تطبق تشريعات مختلفة وهي: المحاكم الشرعية والمحاكم العبرية والمحاكم المخزنية والمحاكم العصرية، الإضافة الى المحاكم العرفية.. هذه الأخيرة تم إحداثها في مطلع الثلاثينات. فبمقتضى ظهير 16 ماي 1930 الذي سمي باسم “الظهير البربري”، أوجدت إدارة الحماية في قسم كبير من المغرب محاكم عرفية، وسميت الدوائر التي أقيمت فيها هذه المحاكم “دوائر العرف”. وكانت هذه المحاكم تحكم بمقتضى الأعراف والعادات المحلية، بدلا من تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. وجعلت على درجتين: محاكم ابتدائية ومحاكم استئنافية.

ففي عهد الحماية الفرنسية، صدرت عدة ظهائر تتعلق بالتنظيم القضائي بالإيالة الشريفة منها ظهير 12 شتنبر 1913 حول إنشاء المحاكم الفرنسية (المحاكم العصرية)، ثم ظهير انشاء المحاكم المخزنية او التقليدية (محاكم الباشوات والقواد) التي أحدثت منذ سنة 1914 بنصوص تشريعية،  وانشاء المحاكم العبرية ومحاكم القضاء الشرعي، التي تختص بقضايا الاحوال الشخصية، وصولا الى القضاء العرفي، اثر ظهير 16 ماي 1930 الذي سمي ب”الظهير البربري” بشكل تعسفي..

ظل موضوع المحاكم العرفية في عهد الحماية الفرنسية منسيا ويتم تناوله بشكل عرضي في الكتابات التاريخية، لكون الأعراف ظلت أمرا مسكوتا عنه من طرف المؤرخين لدواعي مختلفة، بل تم نبذها ووضعها على الهامش من طرف بعض التيارات الفكرية، التي اعتبرت الأعراف مخالفة للدين والشريعة الاسلامية.. ولا يزال نفس التقدير يتكرر في كتابات الزمن الراهن من حين لآخر..

 

المحور الأول: تعريف الظهير ومجال تطبيقه

أ- تسمية مزورة ومضمون محرف

تقدم الرواية الرسمية ظهير 16 ماي 1930 كقانون يهدف الى تمسيح المغاربة الامازيغ واخراجهم من الدين الاسلامي وبث الفرقة بينهم وبين العرب بالمغرب. وقد تقبل المؤرخون هذه الرواية الزائفة وتم تكريسها في الكتب المدرسية بل وجميع الكتب التي تناولت التاريخ المعاصر.. وطبعا من يؤلفون المقررات الدراسية يفكرون في الحاضر، عند صياغة أحداث الماضي، لذلك يضخمون أشياء، ويسكتون عن أخرى، ويذهبون مباشرة الى الخلاصات، التي تكون مختزلة لا تعكس جوهر ما حدث، لأن الحقيقة معقدة في غالب الأحيان، وتختبئ في التفاصيل. بما أن التاريخ تصنعه الشعوب، ويكتبه المنتصرون حسب هواهم..

تقتضي الموضوعية والنزاهة الفكرية تسمية الأشياء بمسمياتها، تلافيا لكل تضليل أو تأويل، وعليه يتعين الاقرار، بغياب أي نص تشريعي ضمن القوانين، التي صدرت في فترة الحماية الفرنسية تحمل اسم “الظهير البربري”. فالاسم الحقيقي، الذي أطلقه المشرع على ظهير 16 ماي 1930 هو “الظهير المنظم لسير العدالة بالقبائل ذات الأعراف الأمازيغية والتي لا توجد بها محاكم لتطبيق الشريعة”[1] أما القرار الوزاري الصادر بتاريخ 8 ابريل 1934 تطبيقا للظهير المذكور، فقد وظف تسمية “ظهير تنظيم المحاكم العرفية”[2].

تؤكد الفقرة الأولى من الفصل الأول من الظهير، أن مقتضياته تطبق على كل المغاربة رعايا صاحب الجلالة بدون استثناء. امازيغوفونيون أم عربوفونيون، مسلمون أو يهود، مدنيون أو قرويون. وتضيف الفقرة المذكورة، أن “المخالفات التي يرتكبها الرعايا المغاربة في القبائل ذات الأعراف الامازيغية بإيالتنا الشريفة والتي ينظر فيها القواد في بقية نواحي مملكتنا السعيدة، يقع زجرها هنا من طرف رؤساء القبائل”..[3]  وهكذا يتضح أن الشرط الوحيد، الذي وضعه المشرع للخضوع للقضاء العرفي هو تواجد المتقاضي بمنطقة الاختصاص الترابي للمحاكم العرفية، وعندما يخرج من دائرة نفوذها يصبح متقاضيا أمام المحاكم المخزنية، اذ لا توجد محاكم عرفية في مدن وسهول المملكة..[4]

وقد جاء هذا الظهير لتتميم سلسلة الإجراءات المقيدة للتنظيم الإداري بالمغرب، الذي كان تحت الحماية، ووضع أسس دولة عصرية حسب تصور الفرنسيين طبعا. وكان ظهير11 شتنبر 1914 أول من قنن تنظيم القبائل الخاضعة للسيطرة الفرنسية، وقد سبقته دورية 15 يونيو 1914 التي توصي ضباط الشؤون الأهلية بالمحافظة على الأعراف الأمازيغية، بعد إخضاع قبائل آيت مگليد و آيت نضير..[5]

بعد إخضاع القبائل المقاومة للهيمنة الفرنسية، دشنت سلطات الحماية التنظيم الإداري في هذه القبائل، بوضعها للجماعات الإدارية في مرحلة أولى، والجماعات القضائية في مرحلة ثانية. هذه الجماعات تحولت ابتداء من سنة 1924 إلى محاكم لها صلاحيات البت في الأحوال الشخصية، الميراث والعقار، “غير أن سيرها [المحاكم الجماعية] تعرض لمشكل جوهري يكمن في أن الأحكام، التي تصدرها الجماعات لا تتمتع في نظر المصالح العمومية، بقوة الشيء المقضي به، في حالة رفضها من طرف أحد المتقاضين، لاعتبار أن تنظيم المحاكم الجماعية مبني فقط، على تدابير إدارية، وينقصها سند قانوني، خلافا لمحاكم القواد والباشوات. وقد فرضت هذه الوضعية على السلطات الاستعمارية، العمل على استصدار ظهير يعطي الصبغة القانونية للجماعات القضائية.[6]  فظهير 16 ماي 1930 لم يأت بجديد، لأن القضاء العرفي كان موجودا بالمغرب قبل الحماية. وقام فقط بإعطاء الصبغة القانونية للجماعات القضائية، إضافة إلى أنه لم يكن أول ظهير بل سبقته ظهائر أخرى، ونخص بالذكر ظهير 15 يونيو1922 الذي يسمح بنزع الأراضي من مالكيها الأصليين، وتفويتها للأجانب بالقبائل ذات العوائد الأمازيغية..[7]

ب- القبائل الخاضعة للظهير:

حصر ظهير 27 مارس 1923 لائحة القبائل الخاضعة للقضاء العرفي، في كبرى القبائل بمناطق الأطلس المتوسط والأطلس الكبير والجنوب الشرقي وسوس[8].. ويتواجد أكبر عدد من القبائل المعنية بمنطقة الأطلس المتوسط كما يلي: بني مطير، بني مگيلد ( إركلاون، آيت عبدي، آيت أومناصف)، گروان الجنوبية: (عيسى أوحدي، آيت خوما، آيت ولال، آيت لحسن، آيت آمان، آيت أومناصف، آيت يزم، آيت حمو، آيت ياسين، آيت ويخيلفن)، آيت يوسي، آيت سغروشن، بني سادن، زمور، زيان.. وفي الاطلس الكبير تم تصنيف كل من: آيت أوتفركال، آيت عباس، آيت بوكماز، إرزران، بني ألاحام.. وفي الجنوب الشرقي تم اختيار القبائل التالية: آيت عطا نومالو، آيت بوزيد، آيت أم البرت،ـ آيت ويراح، آيت أوزرو نومليل( آيت أوكضيض)، آيت يافلمان: (آيت إزدك، آيت أوفلا، آيت عيسى، آيت عياش)، إشكيرن، آيت لحند، آيت اسحاق..

وفي منطقة سوس، تم انتقاء أربعة قبائل: ثلاثة بناحية تيزنيت هي: ادوابعقيل، اداو گرسموك، وكانت أنزي مقرا للمحكمة العرفية، ثم آيت براييم، وكان مقر المحكمة العرفية في ميرلفت بالقبيلة المجاورة.. وفي نواحي أكادير تم انتقاء قبيلة واحدة هي: ادوتنان، وكان مقر المحكمة العرفية في إيموزار..

أما التحديد القضائي للأفراد، الذين يمكن اعتبارهم منتمين لقبيلة ذات [9]JB/192 عرف”بربري”، فتم بموجب قرار وزاري للإقامة العامة الفرنسية، رقم 24 بتاريخ: 24 فبراير 1924، كما يلي:

“-  البربر” المولودون في القبيلة ويقطنون بها.

  • ” البربر” المولودون في قبيلة أخرى.

– العرب الشرفاء المستقرون نهائيا في القبيلة ذات العرف قبل احتلالها من طرف فرنسا، والعرب الذين ولدوا في هذه القبائل ويقيمون بها.

– الإسرائيليون في نفس وضعية العرب والإسرائيليون الذين ولدوا في نفس الوضعية. علاوة على ذلك، هناك التحديد القضائي” للأجانب” عن القبيلة وهم الأفراد الآخرون مهما كانت جنسيتهم، جنسهم أو ديانتهم..[10]

وقد استمرت عملية إضافة باقي القبائل في المغرب، الى مجال القضاء العرفي حتى سنة 1941 فيما بدأت عملية تحويل قبائل سوس إلى المحاكم الشرعية أو القضاة منذ سنة 1947 وتم توقيف العمل بالقضاء العرفي سنة 1956 بعد تنصيب أول حكومة بعد استقلال المغرب. فقد كان أول مرسوم وزاري لأول حكومة مغربية، هو إلغاء ظهير 16 ماي 1930 “المنظم لسير العدالة في القبائل ذات العوائد البربرية”..[11]

وتجدر الإشارة أن القضاء العرفي، لم يكن مقتصرا على منطقة الحماية الفرنسية فقط، بل شمل حتى منطقة الحماية الاسبانية بالمغرب، ومنها قبيلة آيت بعمران بناحية سيدي افني..

 

المحور الثاني: الظهير من منظور السلطان المغربي والحركة الوطنية

  • القصر: الظهير اعتراف بالأعراف الأمازيغية

 

بعد مرور بضع سنوات على دخول معاهدة الحماية حيز التنفيذ، أقر السلطان العلوي بأحقية القبائل الامازيغية في الحفاظ على الأعراف التي تدبر بها أمورها مند القدم.. وبموجب ظهير 11 شتنبر 1914[12] استجاب السلطان مولي يوسف لرغبة كونفدرالية قبائل آيت مگيلد، في الحفاظ على أعرافها. وجاء في الفصل الأول من الظهير المذكور أن “القبائل البربرية الموجودة بإيالتنا الشريفة تبقى شؤونها جارية على مقتضى قواعدها الخصوصية تحت مراقبة الولاة. وكذلك قبائل آيت محمد، بقيادة مرابط زاوية أحنصال، التي تمسكت بالحفاظ على مؤسساتها وعدم إلحاقها بمنطقة نفوذ الكلاوي. وألحت على الالتزام بالحفاظ على أعرافها، في اتفاق مكتوب قبل هدنة 1922 والخضوع للنظام المخزني..[13]

وسار السلطان محمد بن يوسف، على نهج والده في الاعتراف بالأعراف الامازيغية، ويتجلى ذلك في توقيعه ظهير 16 ماي 1930، لذلك كان من الطبيعي أن يكون موقفه من الظهير المذكور، مختلفا تماما عن موقف الحركة الوطنية، التي حولته الى حصان طروادة لتحقيق أهدافها السياسية والإيديولوجية.. وفي هذا السياق، وجه السلطان رسالة ملكية الى أئمة المساجد الكبرى بمدن المملكة، تمت تلاوتها أثناء صلاة الجمعة ليوم عيد المولد النبوي في 11 غشت 1930 وفيه وضح، دواعي إصدار الظهير والغاية منه وبدد تخوفات الناس حول القضاء العرفي، كما يلي: “استمرت ممارسة هذه الأعراف عبر القرون، وآخر من اعترف بها للقبائل البربرية أبونا المعظم والممجد، الذي لم يحدو في ذلك سوى حدو أسلافه لهدف واحد هو إعطاء الامازيغ وسيلة تسوية مشاكلهم لتنمية الأمن فيما بينهم. ولا يمكن اعتبار هذه الالتفاتة كوسيلة للإدارة المخزنية. وقد قررنا بأنفسنا مثل هذه التدابير بظهيرنا الشريف، غير أن شبانا دون مستوى التمييز وغير واعين بخطورة أعمالهم المنافية للقانون، يحاولون إيهام الناس بأن التدابير، التي قررناها لا تهدف سوى الى تنصير “البربر”، وقاموا لذلك بمغالطة الجمهور، وحثو الناس على التجمع بالمساجد وقراءة اللطيف إثر أداء شعائرهم الدينية، محولين بهذه الطريقة الصلاة الى مظاهرة سياسية من شأنها إثارة البلبلة في النفوس..”[14]

ويتضح مما سبق، أن السلطان لم يبقى مكتوف الأيدي أمام مناورة الحركة الوطنية، التي استغلت المساجد وعزفت على وتر الوازع الديني، ورد عليها بنفس الوسيلة التي استعملوها، أي منابر المساجد، تطبيقا لمقولة “وداوها بالتي كانت هي الداء”، وفي هذا الاطار، تندرج الرسالة الملكية، التي تلاها خطباء المساجد في معظم مدن المملكة، وأكد فيها أن “جلالتنا لتستنكر تماما أن تتحول المساجد، التي جعلنها أماكن للعبادة الى نوادي لاجتماعات سياسية، يطلق فيها العنان لخلفيات فكرية وتنمو فيها نزعات خاطئة..”[15]

ومما جاء أيضا، في نص الرسالة الملكية: “… وقد قامت شرذمة من صبيانكم، الذين يكادون لم يبلغوا الحلم وأشاعوا ولبيس ما صنعوا، أن البرابر بموجب الظهير الشريف تنصروا، وما دروا عاقبة فعلهم الذميم وما تبصروا وموهوا بذلك على العامة، وصاروا يدعونهم لعقد الاجتماعات بالمساجد عقب الصلوات، لذكر اسم الله تعالى اللطيف، فخرجت المسألة من دور التضرع والتعبد إلى دور التحزب والتمرد…”[16]

   في المقابل، حرصت الرواية الرسمية المعتمدة في الكتب المدرسية، على إلصاق أوصاف خطيرة بالظهير المذكور، نذكر منها: محاولة فرنسية لتنصير “البربر” وإخراجهم من طاعة السلطان ومن الدين الإسلامي، إحداث تفرقة بين المغاربة.. وهكذا تم إدخال “الظهير البربري” الى البرامج التعليمية، كحقيقة تاريخية يجب على الذاكرة الجماعية “الوطنية” الحفاظ عليه، مع التذكير بأن “البرابرة هم سكان المغرب الأولون كانوا يسكنون…” كل ذلك بقلم خبير لبناني من مخلفات إدارة التعليم الفرنسية، صاحب مقرر أول كتاب مدرسي في مادة التاريخ بالمغرب المستقل..[17] لدرجة أن الكتب المدرسية تربط نشأة الحركة وتأسيس “كتلة العمل الوطني”، بصدور ما يسمى “الظهير البربري” وتشدد على رفض المغاربة قاطبة لهذا الظهير بقراءة “اللطيف” والاحتجاج في الشوارع، ويبقى الكتاب المدرسي للسنة الثانية بكالوريا في مادة التاريخ، خير مثال في هذا الشأن..

وطبعا الرواية المروجة في المقررات الدراسية زائفة، ولا تعكس منظور السلطان محمد بن يوسف الى ظهير 16 ماي 1930 بل تعكس، بشكل أحادي، موقف الحركة الوطنية الى الموضوع. ولا ندري كيف سمحت المقررات الدراسية بتكريس نظرة الحركة الوطنية والبحث عن المشروعية التاريخية لرموزها وتكريسها، مقابل إغفال موقف السلطان وتغييبه بشكل مقصود؟ أم أن أحزاب الحركة الوطنية، التي تعاقبت على تدبير الشأن الحكومي بعد الاستقلال، ومنها حزب الاستقلال، استغلت مناصبها لتمرير رواية زائفة عن التاريخ، ومنها الظهير المنظم للقضاء العرفي، الذي استعمل كدرع مضاد ضد المطالب الثقافية الامازيغية منذ فجر الاستقلال.. خصوصا أن وزراء حزب الاستقلال تحملوا حقيبة التعليم في بداية الثمانينات ومنهم عز الدين العراقي، الذي دشن مسلسل تعريب التعليم  العمومي، وكانت البداية بالسلك الابتدائي، مع ما رافق العملية من تغيير جذري في محتويات المقررات المدرسية..

 

ب- الحركة الوطنية تسمي الظهير ب”البربري” وتقاومه بدعاء “اللطيف”

لم يتضمن ظهير 16ماي 1930 أي شيء يسمح بربطه بمشروع التقسيم بين العرب والامازيغ.. ورغم ذلك فإن التسمية التي استعملت من طرف السياسيين وخاصة أعضاء حزب معين (الاستقلال) هي تسمية ذات صبغة عرقية إيديولوجية، تبرهن على ضوء النعت، الذي تلصقه بالظهير أن المستهدف ليس التنظيم القضائي للبلاد، الموضوع من طرف المستعمر أو المحاكم العرفية، بل الأمازيغ، رغم أن الأغلبية الساحقة منهم، لم تكن معنية بهذا النص التشريعي، شأنهم في ذلك شأن باقي المغاربة..[18]

  على امتداد فصول الظهير، الذي يقع في ثمانية فصول وتمهيد، ويحمل توقيع المقيم العام لوسيان سان، لا وجود لأي حديث عن اعتناق المسيحية أو الردة عن الاسلام، كما زعم منظرو الحركة الوطنية، الذين اعترفوا بشكل ضمني، في وقت لاحق، أن التسمية، التي أطلقت على الظهير مجرد “أكذوبة” لافتعال ضجة حول ظهير المحاكم العرفية، بسبب حساسيتهم المفرطة تجاه البعد الأمازيغي للهوية المغربية، وهم المنحدرون من أسر عربية أندلسية، وهو ما يستشف من تصريح أبوبكر القادري لجريدة مغربية، اذ صرح أن عبد اللطيف الصبيحي، هو الذي نحت تسمية “الظهير البربري”[19].. وأضاف القادري في مقابلة تلفزية: “ولأن “الظهير البربري” صدر في ماي، وكان الفصل صيفا حارا وأغلب الشباب قصد شاطئ البحر للإستجمام، فإن عبد اللطيف الصبيحي توجه إلى الشباب في الشاطئ وأخذ يؤنبهم لأنهم يلهون ويسبحون في حين أن المغرب مهدد في كيانه، وكان شابا فصيحا. فالتف حوله بعض الشباب ممن تمكن من إقناعهم بخطورة “الظهير البربري”، وأخذوا يفكرون في كيفية مواجهته وطرحت فكرة التركيز على أن الاستعمار يريد إزالة النفوذ للملك. فتم الاعتراض عليها، لأن أغلبية الناس سوف لن تتصدى للظهير فقط لهذا السبب، فهذه الفكرة وحدها غير كافية لاستنهاض الهمم وحشد الطاقة الوطنية. وبعد أخذ ورد اتفق شباب المجتمع على القول بأن الغاية من الظهير هي تحويل المغاربة إلى نصارى. وينبغي البحث عن وسيلة لإبلاغ هذه الفكرة إلى المغاربة”..[20]

أقامت الحركة الوطنية ضجة كبرى على الظهير المنظم للمحاكم العرفية، وألصقت به عددا كبيرا من التهم الخطيرة، من أجل تأليب الرأي العام وخلق البلبلة لدى الجمهور، الذي لا يدري ما يجري وما يدور في الساحة.. كما استغلت الحركة الوطنية المساجد لتمرير خطابها السياسي الى المواطنين البسطاء وطالبتهم بترديد دعاء “اللطيف”، الذي لا يقرأ، عادة، إلا كلما داهم خطر محدق بالبلاد.. وكان نص الدعاء كما يلي: “اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر”.. وقد أبدعه المرحوم عبد الله الجيراري والد المستشار الملكي عباس الجيراري،[21] الذي “كان إماما لأحد المساجد في الرباط، وفي خطبة الجمعة تحدث عن “الظهير البربري” وحذر من عواقبه(…) وطلب من المصلين ترديد اللطيف، وهو الذي هيأ الصيغة التي ظلت تردد في المساجد وخارجه.. ففي البداية، يكتفي  المصلون بالقول: “يا لطيف، يا لطيف”، إلى أن أعد المرحوم هذه الصيغة، التي كانت سهلة الحفظ وحلوة أثناء الترديد”..[22] وحسب “جيل لافوينت”، فإن ترديد “اللطيف” كان يتم كل يوم بفاس من 4 يوليوز إلى 15 غشت أي 43 مرة، بينما ينزل هذا الرقم إلى 15 بالرباط، و15 لسلا…”[23]

زيادة على حملة قراءة اللطيف في المساجد، نظم الوطنيون مظاهرات انطلقت في مدينة فاس، لتعم بعد ذلك عدة مدن مغربية، احتجاجا على الظهير الاستعماري.. كما نظم شعراء الحركة الوطنية قصائد شعرية في رفض الظهير الاستعماري ومنهم علال الفاسي، الذي أنشد قصيدة، أصبحت نشيدا يردده الشباب في مقرات حزب الاستقلال، مما جاء فيها:

صوت ينادي المغربي من مازغ ويعرب

يحدو الشباب المغربي للموت من دون الوطن

لا نرضى بالتفرقة ولو علونا المشنقة

ولو غدت ممزقة أشلاؤها فدى للوطن[24]

لكن مؤسس حزب الاستقلال، سيعود في أكتوبر من العام 1948 وينحت مصطلح “المغرب العربي” وهي تسمية تقصي “مازغ” من الوجود ببلادنا، وهو أول من استخدم المصطلح الاقصائي، الذي يلغي السكان الأصليين للمغرب، وذلك في كتابه “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”..[25]

أما الغاية الغير المعلنة من وراء إطلاق تسمية “الظهير البربري”، فهي “تصنيف المواطنين المغاربة الى عرب متحضرين واعين بهويتهم وعقيدتهم وحريصين على الدفاع عنها، و”بربر” بدائيين متخلفين هو لعبة بين أيدي المستعمر ومصدر لكل شر.. وانطلاقا من هذا الموقف، تقع على الطرف الأول “النير” والذي تقوده بطبيعة الحال النخبة البورجوزاية[26] مسؤولية ممارسة الوصاية على “البربر” حتى لا يخربوا بيوتهم بأيديهم. ويتجلى ذلك في “اللطيف” الذي يرمز الى تفوق العرق العربي والذي ردد احتجاجا على صدور الظهير..[27] وعليه فاليقظون حماة الدين والوطن والصامدون أمام دسائس الاستعمار هم العرب والضالون الغير الفاطنين بمكائد العدو هم الامازيغ، الذين لم تستسلم آخر قبائلهم سوى في العام 1934![28]

ويمكننا أن نستنتج أن الهاجس الأساسي وراء معارضة الحركة الوطنية لظهير 16 ماي 1930 بشأن تنظيم القضاء العرفي في القبائل ذات الاعراف الامازيغية، هو توجس الحركة أن يكون تقنين القضاء العرفي الامازيغي مقدمة لاعتراف محتمل بالأمازيغية كلغة رسمية في البلاد، وهذا ما يتضح من لائحة المطالب الواردة في “دفتر الاصلاحات المغربية” المقدم الى السلطات الفرنسية سنة 1934، حيث لم يتضمن أي مطلب بإلغاء الظهير الاستعماري، علما أنه كان ساري المفعول في ذلك التاريخ، بل نص المطلب الخامس من “دفتر مطالب الشعب المغربي”، النسخة العربية، على “احترام اللغة العربية، لغة البلاد الدينية والرسمية والإدارات كلها بالإيالات الشريفة وكذلك سائر المحاكم. وعدم إعطاء أية لهجة من اللهجات البربرية أية صفة رسمية. ومن ذلك عدم كتابتها بالحروف اللاتينية”[29]. رغم أن هذا المطلب يغيب في النسخة الفرنسية لدفتر المطالب. مما يؤكد أن “الظهير البربري”، كان  أكذوبة سياسية تم اختلاقها لغاية في نفس يعقوب..

خاتمة

يقودنا التحليل السابق الى استخلاص النتائج التالية:

لم يغلف الأمازيغ موقفهم من الظهير بهالة سياسية وإيديولوجية وغنما، واعتبروه كاستمرار واعتراف رسمي بعوائدهم، كما سبق للسلاطين العلويين الاعتراف بها منذ القرن 19 ( المولى الحسن ومحمد بن عبد الرحمان…) بل نظروا إليه كألية لتنظيم عصري لشؤونهم القضائية.

–        الحماية الفرنسية كان رهانها من الظهير ترسيخ وجودها في المناطق الامازيغية تسهيلا لعملية استغلال ثرواتها، التي كانت فيها المقاومة المسلحة قوية وخشيت انبعاثها من جديد.

  • تعرض الظهير للتشويه والتحريف من طرف الحركة الوطنية، التي اعتبرته “ظهيرا بربريا” واستغلته النضال ضده كحصان طروادة لتحقيق مكاسب سياسية.
  • تسمية “الظهير البربري” لا تعكس حقيقة ظهير 16 ماي 1930 الذي وجد لتنظيم القضاء العرفي السائد لدى مجموعة القبائل المغربية ذات الاعراف الامازيغية.. مما جعل بعض المهتمين يسمونه “أكذوبة” او “أسطورة”..
  • الظهير جاء لتقنين القضاء العرفي السائد لدى القبائل الأمازيغية، ولا علاقة له بإخراج الأمازيغ من طاعة السلطان ودفعهم نحو اعتناق المسيحية..
  • تناقض خطاب الحركة الوطنية: ان كان هدفها هو الدفاع عن السلطان فكان حريا بها التظاهر ضد التدخل القوي لسلطات الحماية في مراقبة وتوجيه القضاء المخزني والشرعي، اللذان فقدا استقلالهما لصالح الفرنسيين سوء مركزيا أو محليا..
  • الرواية التي تقدمها الكتب المدرسية عن الظهير، زائفة، وتنتصر لموقف الحركة الوطنية وتتجاهل موقف السلطان مولي يوسف ومحمد الخامس للموضوع..
  • الوزراء المنتمون لأحزاب الحركة الوطنية، استغلوا مناصبهم الحكومية لتغيير محتوى الكتب المدرسية وتحريف التاريخ ومنه حقيقة ظهير 16 ماي 1930
  • ضرورة مراجعة التاريخ المغربي وتنقيحه من الروايات الزائفة التي أدخلها السياسيون في مراحل سابقة بعد الاستقلال..

ابراهيم اوزيد

[1] Bulletin officielle, protectorat de la république Française au Maroc, numéro :918, du : 30 Mai 1930  p :652

[2]  محمد منيب،”الظهير البربري: أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر”، منشورات “تاوالت” الثقافية، 2003 كاليفورنيا، أمريكا، ص: 5

[3] Bulletin officielle, protectorat de la république Française au Maroc, numéro :918, du : 30 Mai 1930, page :652

[4]  محمد منيب، م س، ص: 11

[5]  عبد المطلب الزيزاوي، “أبو بكر القادري والحنين إلى أسطورة “الظهير البربري”، amazighworld.org،

منشور بتاريخ: 2006-05-16، تصفح بتاريخ: 08 /05/2020

URL : http://www.amazighworld.org/arabic/news/index_show.php?id=31

[6]  نفسه

[7]  نفسه

[8] Bulletin officielle, protectorat de la république Française au Maroc, numéro :553, du : 23 Mai 1923, page :662

[9] Abréviation de justice berbère

[10]  عبد المطلب الزيزاوي، “أوهام الظهير البربري: السياق والتداعيات”، منشورات “فيديبرانت”، الرباط، الطبعة الأولى، 2003، المبحث الثاني من الفصل الأول،

[11]  مصطفى القادري، مقدمة كتاب “أوهام الظهير البربري: السياق والتداعيات”، م س،

[12] Gilles Lafuente, «la politique berbère de la France et le nationalisme Marocain», l’Harmattan, Paris, 1999 p: 22

[13] Mustapha El Kadery, politique berbère et lecture du 20 éme siècle Marocain, Ircam, rabat, p :13

[14] Gilles Lafuente, « Politique berbère de la France et le nationalisme marocain », cité par Mohamed Mounib, page : 25-26

[15] Gilles Lafuente, op,

[16]  الزيزاوي، “اوهام الظهير البربري”، ص: 46

[17]  مصطفى القادري مقدمة كتاب “أوهام الظهير البربري”

[18]  محمد منيب، م س، ص: 6

[19]  انظر حوار مع أبوبكر القادري على جريدة “الأحداث المغربية”، العدد الموافق ليوم4 دجنبر2000

[20]  تصريح أبو بكر القادري لبرنامج “أقواس” على القناة الأولى، بتاريخ: 14 أكتوبر 2002

[21]  عبد الله بن عباس الجيراري (1905 م/1983 م) نسبة إلى عرب بني جرّار، الذين وفدوا إلى المغرب في وقت مبكر خاصة في النصف الأخير من القرن الهجري الثاني، ولد بالرباط سنة 1905 م. يوجد قبر جده بقرية “البير” بجماعة الرگادة نواحي تيزنيت..

انظر ترجمته في: “العالم المجاهد عبد الله بن العباس الجراري” ،عباس الجراري، -طـ دار الثقافة – الدار البيضاء (1405 هـ – 1985 م).

[22]  ابوبكر القادري، في برنامج “أقواس”، م س،

[23]  عبد المطلب الزيزاوي، “أوهام الظهير البربري: السياق والتداعيات”، منشورات “فيديبرانت”، الرباط، الطبعة الأولى، 2003، ص: 39

[24]  جريدة “العلم”، العدد:076 20، 16 ماي 2005

[25]  انظر:  “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”، ط أولى، مطبعة “الرسالة”، القاهرة، أكتوبر 1948

[26]  النخبة المحافظة المتأثرة بالحركة السلفية والقومية في المشرق والتي وجدت في القرويين مرتعا لنشر أفكارها..

[27]  محمد منيب، م س،

[28]  نفسه

[29]  عبد المطلب الزيزاوي، “اوهام الظهير البربري”، م س، ص: 58

اضف تعليق