قراءة في كتاب “صبي من إفران” للكاتب المغربي الاسرائيلي أشر كنافو

أصدر عبدالرحيم حيمد، الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الانسانية بأكادير، الترجمة العربية لرواية الكاتب المغربي الاسرائيلي أشر كنافو، وتحمل عنوان “صبي من إفران” وبالعبرية “هتينوك مِ أوفران”، التي صدرت طبعتها الأولى في العام 2000 والطبعة الثانية في السنة الموالية عن دار النشر “بميت قدم” بتل أبيب.. وهذا الإصدار الجديد، عبارة عن رواية تضم 294 صفحة من الحجم المتوسط، مع تقديم للأستاذ المتخصص في الأدب العبري أحمد شحلان رئيس الجمعية المغربية للدراسات الشرقية..

إفران قرية من قرى الأطلس الصغير، يقال بأن يهودها قدموا إلى المنطقة أيام حكم سليمان وأسسوا هذه القرية التي خالطهم فيها مسلمو المنطقة، وأقاموا مجتمعا متكاملا منسجماً. عاشت القرية وأهلها منذ بداية تاريخها هدوءاً لم يتكدر صفوه إلا بعد أن حل بها باشا ظالم وقاض جشع. تاريخ قديم وأحداث مؤلمة، تلك هي الخيوط التي نسج من وقائعها وخياله، الكاتبُ اليهودي ذو الأصول المغربية أشر كنافو، التي هاجرت أسرته، مثل عديد من الأسر التي فارقت أرضها عن أمر لم يَبِن بعد بما فيه الكفاية، ما يفسرُ قبولَه، واستقرت بأرض فلسطين. عاش المؤلف أحداث القصة منذ طفولته يسمع عنها من الأفواه، بأشكال متعددة وروايات مختلفة. ويدفعه الفضول إلى رحلة لجنوب المغرب بعد أن كبر وأغراه صدى الحَكْي، ينتقل من أﮔادير إلى تيزنيت إلى عتبات قرية إفران التي لم يستطع الوصول إليها وإلى مقبرتها لزيارة أجداده لأسباب ذكرها. ويسعده الحظ بالتوصل بوثائق من وراء البحار، تكمل فراغات الحَكْي وظلال الأسطورة. ويعقد العزم على كتابة تاريخ القرية وأحداثها. من قرية إفران، امتدت الخيوط، مروراً بالصويرة لتصل تامبكتو وبوينس إيرس ولندن، في مغرب القرن الثامن عشر.

تجدر الاشارة أن المؤلف أشر كنافو ولد سنة 1935 بالصويرة ودرس بها قبل أن يهاجر الى فلسطين عام 1951. انتقل الى ايطاليا وفرنسا سنة 1961 حيث تابع تعليمه في السوربون، ثم أرسل في بعثة تعليمية الى بنما عام 1973.. عمل منذ 1980 في حقل التربية الاجتماعية ونشر عددا من المقالات والدراسات، ويشغل حاليا رئيس تحرير مجلة “بريت” (العهد بالعبرية) الناطقة باسم يهود المغرب.. من أعماله: “حزان في الحمام، صور من حياة يهود المغرب”، 2010 بالعبرية و “عرس يهودي في الصويرة”، 2002 بمشاركة مع داود بن سوسان بالعبرية ثم “الشاعر يوسف كنافو، من أعلام الأدباء المغاربة المهاجرين خلال سنوات الخمسينات، الرجل والأعمال”، 1998 بالفرنسية..

يغطي اللون الأحمر الغامق غلاف الرواية، في اشارة الى لهيب النار، وبالتالي المحرقة التي انتهى إليها يهود افران على يد الطاغية بوحلاس، وهي القصة التي تدور حولها رواية أشر كنافو.. وفي صدر الكتاب نقرأ العنوان: “صبي من افران” وبين معقوفتين نقرأ :”الاطلس الصغير” وأسفله وردت عبارة “رواية” بين قوسين.. ومن خلال العنوان فالمؤلف، يلعب على وثر جذب تعاطف القراء من خلال توظيف لفظة “صبي” التي تعني ع وليد بريئ قدم للتو الى هذا العالم، لكن تصادف ميلاده مع فترة عصيبة عاشها أبناء طائفته، في إفران بالجنوب المغربي على يد باشا ظالم..

لا تبتعد الرواية عن التيمات المهيمنة في الأدب العبري المعاصر منها معاداة السامية والاضطهاد والشتات والمحرقة.. تروي الرواية أحداثا بعضها وقع حقيقة وبعضها محض خيال اقتضت طبيعة السرد وتطوره وجودها ليكتمل البناء الدرامي في هذا العمل، الذي لا يمكن قراءته الا باستحضار ما وثق له فقهاء سوس عن فتنة الثائر بوحلاس في أواخر القرن الثامن عشر، كما جاء في مقدمة المترجم..[1]

 توظف الرواية بعض الأحداث التاريخية التي عصفت بمناطق في جنوب المغرب ومست بشكل مباشر الطائفة اليهودية المغربية في افران الاطلس الصغير، في زمن ضعفت فيه سلطة الدولة المركزية، فانقض على السكان الطامعون في المال والجاه وتسلق الحكم، يتزعمهم بوحلاس وذلك في مفتتح إمارة السلطان العلوي المولى سليمان…

مساهمة في حفظ الذاكرة اليهودية

رغم الملاحظات والانتقادات التي سجلها المترجم والمراجِع ويتلمسها القارئ بوضوح على امتداد صفحات رواية “صبي من افران” فإن هذا العمل الأدبي يشكل مساهمة قيمة في اغناء الذاكرة اليهودية المغربية التي تحوي أسرار قرون كثيرة من التواجد اليهودي في المغرب الاقصى.. وهو نفس الشعور الذي عبر عنه المؤلف في خاتمة الكتاب، عندما اعتبر أن أمله من إصدار قصة المحروقين هو إدراج شجاعة يهود افران في وعي الذاكرة اليهودية..

 فالرواية تسمح للمتتبع بالاطلاع على جوانب كثيرة من الشخصية اليهودية بافران سواء في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو الديني.. حيث يعج الكتاب بمعلومات قيمة عن اليهود وما يتصفون به من قيم في علاقتهم البينية أو مع إخوانهم المسلمين ومنها الوفاء بالعهود والصدق في المعاملة وحفظ الأمانة والتمسك القوي بالدين الى حد التضحية بالنفس “فاليهودي يموت ولا يرتد عن دينه” كما جاء في احدى الصفحات.. فاليهود المغاربة، كما تؤكد الرواية، معروفون بتشبتهم بالشعائر الدينية خصوصا في أوقات الشدة والمحن ويؤمنون ببركات الأولياء بشكل يفوق ايمان المسلمين.. كما سلط الكتاب الضوء على الطقوس الدينية لليهود من صلوات وأدعية وحفلات عقيقة وجنائز  وأعياد ومناسبات دينية مقدسة، يحرص اليهود الافرانيون على الاحتفال بها وتخليدها بما يليق بها من عظمة واعتزاز..

فرغم مشاغل التجارة، يحرص اليهود على أداء الصلوات جماعة في البيعة التي يتحقق شرط الجماعة فيها بوجود عشرة من اليهود على الأقل ويسمى “مينيان”، وتؤدى الصلاة بوضع شال يتزر به المصلي يسمى “طاليت” تتدلى من أذياله أهذاب أربعة عبارة عن خيوط من كتان. كما يضع المصلي الطاقية اليهودية او “الكيبا” أو الشاشيا وهو غطاء رأس صغير يلزم العرف وضعه أثناء الصلاة ويتقيد المتدينون بارتدائه على الدوام. وفي صلاة الفجر خلال الأيام العادية يضع المصلي شريطان من جلد حول رأسه وحول ذراعه اليسرى وتلف داخلهما نصوص توراتية من الكتاب المقدس اليهودي، الذي يضم التوراة التي تحوي خمسة أسفار وهي: سفر التكوين، سفر الخروج، سفر اللاويين، سفر العدد، وسفر التثنية  بالإضافة الى أسفار الأنبياء والمكتوبات..

وفي مجال التنشئة الاجتماعية، يسهر يهود إفران على تربية أبنائهم وفق تعاليم الديانة اليهودية ويتشبثون بطقوسهم الدينية بصرامة.. وهكذا يولي اليهود عناية خاصة لحفل الختان في اليوم الثامن بعد الولادة ويسمى “بريت ميلاه” بمعنى “عهد الختان” ويعتبر الأب مكلفا شرعا بفريضة الختان كما يعين الأب عرابا يتشرف بحمل الوليد أثناء فعل الختان عادة ما يكون أحدا من الأقارب ويميز الحفل إنشاد تراتيل وتسمية الوليد وينتهي بوليمة.. وبعدما يصبح الوليد صبيا يوجه الى الكتاب، الذي يلقن فيه الصبيان مبادئ القراءة والكتابة وأوليات العقيدة اليهودية ويسمى “الصلا”.. وعندما يبلغ سن الثالثة عشر وهي سن التكليف الشرعي بأداء الفرائض الشرعية يقام له طقس ديني يوم السبت في البيعة يسمى “بار ميتسفا” (ابن الفريضة)، وبعد العشرين من العمر يتم توجيهه نحو مركز التعليم اليهودي، الذي يتم فيه تعليم التلمود والتوراة ويسمى “يشيبا”..

إفران أمازيغية أم يهودية؟

يقدم المؤلف إفران الاطلس الصغير على أنها بلدة يهودية منذ القدم وكانوا يسمونها “القدس الصغيرة”، اذ سكنها اليهود منذ زمن الملك سليمان[2]، بالاعتماد على روايات عثر عليها في تعاويذ ووثائق مختلفة.. ويجزم المؤلف أن لفظة “إفران” مشتقة من سبط الملك افرايم Ephrati، الذي أسس أول إمارة يهودية بالمغرب ومنه يتحدر سكان البلدة.. وفي رواية ثانية يحاول البحث عن معنى للتسمية المذكورة ضمن معجم اللغة العبرية، وفي هذا الصدد اعتبر أن لفظة “إفران” مشتقة من الكلمة العبرية: “أفر نون” أي (عفر نون) بمعنى “رماد الخمسين” (محروقا).. وفي رواية أخرى زعم أن نفس اللفظة مشتقة من “أفر- رن” أي “رماد المئتين والخمسين” (محروقا).. وهنا يسقط المؤلف في تناقض واضح، اذ ان التفسيرات التي قدمها لاسم “إفران” من اللغة العبرية، تربط الطوبونيم بحادث حرق اليهود من طرف بوحلاس في نهاية القرن الثامن عشر في حين ان الاستقرار اليهودي بافران، أقدم من ذلك بكثير، اذ يعود الى القرن الرابع قبل الميلاد… ما يعني أن اسم المكان موجود منذ تلك الحقبة التاريخية..

فالمؤلف عوض أن يبحث عن معنى “إفران” في المعجم الامازيغي ذهب يبحث عنه في اللغة العبرية… فتسمية “إفران” متداولة بكثرة بين أسماء الأماكن بالمناطق ذات الغالبية الأمازيغية بالمغرب، حيث تنتشر بالمناطق المأهولة باليهود مثل: إفران الأطلس الصغير، مثلما توجد نفس التسمية في مناطق أخرى لم تعرف أي تواجد يهودي كما هو الحال بالنسبة الى الأطلس المتوسط، كما هو الحال بالنسبة الى مدينة إفران الجبلية بضواحي فاس.. ولفظة “إفران” بالامازيغية هي جمع كلمة إفري” وتعني المغارة وجمعها “إفران” أي: المغارات.. وهذا يتفق مع رأي المؤرخين، الذين أكدوا أن اليهود بعدما حلوا بالضفة الأطلسية للأطلس الصغير في العام 361 قبل الميلاد، استقروا في بادئ الأمر في مغارات محاذية لواد إفران، بعد شراء الموافقة من السكان الأصليين.. وبفضل تحالف مع الأهالي، أسسوا إمارة حكمها الملك افراتي، من قبيلة افراييم، وهي واحدة من اثنا عشر قبيلة تكون شعب بني اسرائيل.. [3] كما أن الاشارة التي وردت في رواية أشر كنافو حول ملكية اليهود لبعض المرافق الدينية والمعيشية مثل: انشاء مقبرة “معارت ه مخفيلا” كما كانوا يسمونها، لأنها اشتريت بمال اليهود على غرار “معارت ه مخفيلا” في الخليل، التي اشتريت أيضا بمال ابراهيم العبري.. وحيازتهم لملكية عين الماء تم بفضل علاقاتهم التجارية مع السكان الأصليين، فالرواية تؤكد أن العين الجارية، التي أقيم بجانبها حوض لطهارة النساء اليهوديات، اقتناه اليهود الأوائل بشاشية مملوءة ذهبا، مثلما اقتنوا الأرض التي أقيمت فوقها المقبرة بكمية من الذهب تعادل عنق جمل.. فإذا كانت إفران يهودية منذ الأزل، كما يرى المؤلف، فلماذا يحتاج اليهود شراء العين والأرض اللازم لإنشاء المقبرة من السكان الأصليين؟؟ يفترض في هذه الحالة، أن تكون معظم الأراضي ومصادر المياه في ملكيتهم دون الحاجة الى شرائها بكميات كبيرة من الذهب، وهو العماد الأساسي لممارسة التجارة التي يعيش منها معظم يهود إفران. بل لو امتلكوا المياه والأراضي الضرورية لمارسوا النشاط الفلاحي والتزموا حياة الاستقرار.  والى جانب الكتابات الموجودة في الوثائق والتعاويذ، نافح المؤلف عن كون افران يهودية منذ القدم، موظفا في ذلك الحوارات الحجاجية بين شخصيات الرواية، يقول اسحاق قادوش:”.. لكن نحن هنا على هذه الأرض أقدم منهم، أراضينا هنا، من منهم يستطيع أن يعد سلسلة أسلافه، الذين سكنوا هنا، كما يفعل كل واحد منا؟ (ص:62).. وهذا السؤال الاستنكاري يمكن الإجابة عنه بكون السكان المحليين لا يعتمدون التوثيق المكتوب على غرار اليهود، الذين يتقنون الكتابة والقراءة باللغة العبرية، وينقشون تواريخ أجدادهم في التعاويذ وعلى شواهد القبور المصنوعة من الأحجار..

وعلى أي فإن الإثبات التاريخي للأصول القديمة ليهود إفران يصعب تأريخها بما قبل القرن الرابع قبل الميلاد. وما تداولته الرواية لا يخرج عن ترسبات في ذاكرة الجماعات اليهودية إلى درجة الاعتقاد بأصولهم الإفرانية.

حدث تاريخي ونص إبداعي يلعب على التحوير

الأحداث الجسام التي ساقها كنافو في رواية “صبي من إفران” ومسهبا في ذكر دقائقها سبق أن كانت محط كتابات فقهاء سوس ومنهم محمد بن احمد المرابط، الذي أكد أن الثائر بوحلاس ظهر في سنة 1207ه وهو انسان مجهول النسبة والبلد في بلدة تاسريرت في ايت بعمران في ساحل البحر.. ملأ بردعته بقراطيس مكتوبة برموز من السحر. ثم أمر بجمع الاسرائيليين الذين هناك، فقتل منهم ثلاثين بل أكثر، ونهبت أموالهم..[4] كما وصف إخباريونا أيضا اقتحامه لافران، وسفكه دماء أهلها، نقرأ في هذا السياق: ثم لم يزل الخداع المذكور يأمر أتباعه بباطله، وبمسيرهم الى “تاسريرت”، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وجمعها له، وإفساد ما هنالك من النبات والبنيان. وسبي النساء له. وقتل الطلبة والضعفاء من المسلمين والذميين وعدم دفنهم. وخلط بعضهم ببعض.. وأشرار الناس يتواردون عليه الى أن أمرهم.. بالمسير الى افران. فنزلوا في تيمولاي، وأرسل إليهم أن يدخلوا في طاعته.. وأن يسلموا إليه المرابط سيدي احمد بن سعيد، وكل يهودي هناك بماله، فأبوا فوقع القتال بينهم.. فوقع الفساد، وهتك الحرم، ونهبت الأموال.. واختلطت الموتى وبقيت بلا دفن..[5] وتخبرنا المصادر التاريخية نفسها عن مآل الفتان بوحلاس بعد أن أفلح علماء سوس في التصدي له ولاتباعه، والإجهاز عليه بعد نزال شديد.. ومنها ما ورد في “المعسول”: “.. فاجتمع منهم في زاوية سيد احمد بن موسى نحو اثنى عشر ألفا بين فارس وراجل. فوجههم شيخنا الى تيمولاي حيث الساحر وحزبه. فلما أحسوا بذلك، وهم عسكر عظيم، توجهوا الى ازغار. فالتقى معهم أهل السنة والجماعة في ايغبولا والعوينة قرب تيزنيت، وذلك في أواسط شعبان. فوقعت الهزيمة بإذن الله في حزب الشيطان. وحصر الساحر وشرذمة قليلة في دور هناك حتى أخذوا قتل شر قتلة. وضرب بنحو ألف بندقية من الرصاص..[6]

ويلاحظ أن هذه النصوص الاخبارية المكتوبة من طرف الفقهاء تحمل في طياتها تحايلا وبغضا وانتقادا  لبوحلاس باعتباره من الطائفة المهداوية واستهداف ثورته من جهة للفقهاء، نظرا لما لهم من رأسمال رمزي مهم وأهمية القضاء عليهم في إزاحة معارضيه في طموحه السياسي. ومن جهة أخرى لليهود لما كانوا يمتلكونه من ثروات مادية مهمة راهن عليها بوحلاس لإنشاء ووضع أسس سلطته وحكمه.

نحن الآن أمام حدث تاريخي ونص إبداعي، عين إخبارية تصف ما حدث وعقل مبدع يتعامل مع الأحداث ليوجهها الى مقاصد أخرى ويسخرها لخدمة قضايا ينافح عنها لسان المؤلف، كما قال مترجم الرواية (الصفحة  15)… وهكذا فإن المؤلف يسترجع التاريخ ويوظفه أدبيا في معترك الإسقاط والتكييف والتحوير بمختلف أنواعه ودرجاته ولو اقتضى الأمر طمس الحقيقة وتقديمها في صيغة مؤدلجة خدمة لأغراض سياسية واضحة، فالمجال الذي تدور فيه الأحداث أمازيغي محض، لكن المؤلف يطلق على الشخصيات التي تتحرك في هذا الفضاء الأمازيغي “عرب” و”عربيات” و”أبناء العرب”… في كل فصول القصة بتأثير من الكتابات الاسرائيلية وأسلوبها العبري الحديث، رغم أن كل الأبطال، الذين كانوا يتحركون في فضاء هذه الرواية كانوا أمازيغ، كما فطن الى ذلك الأستاذ أحمد شحلان في تقديمه للعمل المترجم.. ورغم محاولة الكاتب تقديم فضاء الرواية كوسط عربي، فإن أسماء بعض الأشجار المنتشرة بالمجال، ومنها “أساسنو”، وهي التسمية الأمازيغية لشجرة القطلب الاغريقي وتسمى بالفرنسية: L’arbousier..  تكشف حقيقة الفضاء وهو فضاء امازيغي بشخصياته وأشجاره وأسماء أماكنه.. لكن المؤلف يريد المؤلف تقديمه في صورة مغايرة للواقع… أضف الى ذلك أن الحوارات التي أوردها المؤلف على لسان شخصيات الرواية، تتضمن تعابير غير دقيقة وعبارات غير متداولة في العربية العامية التي يرطن بها المغاربة كما هو الحال بالنسبة الى المقطع الوارد في الصفحة:195 من الكتاب كما يلي: “ولكن النار الموقدة ما انفكت تتأجج في قلب افران، تتلظى وتهدد أبناء الطائفة بالموت. وبدا أولاد العرب، وهم يتزاحمون حولها… وهم يرقصون ويغنون مهللين: “دور أو دور أو دفع لهودي للنار”.. في حين أن العربية المغربية لا توظف لفظة “النار” بل تستعمل “العافية” المشتقة بدورها من اللغة الامازيغية.. وهو أمر يعرفه المؤلف جيدا، بحكم انه ولد وعاش في المغرب الى سنة 1951 وهكذا يمكننا أن نستنتج بسهولة، أن تسمية “عرب” و”عربيات” داخل الرواية تعني في الواقع “أمازيغ” و”أمازيغيات”، لكن المؤلف لا يفصح عنها ويقحم العرب، البعيدون جغرافيا عن مسرح الأحداث، في السياق التاريخي للرواية خدمة لأهداف سياسية راهنة.. ويبقى الاستثناء الوحيد، ضمن الشخصيات الواردة في الرواية، هي ديهيا الملقبة ب”الكاهنة” من طرف العرب، والتي حكمت الأوراس قبل الفتح الاسلامي في القرن السابع الميلادي، واعتبرها “الملكة الامازيغية، ملكة اليهود.. وملكة محاربة رأست آلاف الرجال، وقادتهم بحنكة ودهاء، في حروب انتصرت فيها جميعها، حتى أسقطها أرضا خنجر الغدر.” (ص:150).. ولا يخرج الاحتفاء بديهيا عن التضخيم، الذي تعاملت به بعض الكتابات اليهودية مع حدث مقاتلتها للغزاة العرب باعتبارها ملكة يهودية أمازيغية[7]. مما يؤكد أن الكاتب تعامل مع فضاء الرواية بتحوير وتكييف خدمة لأغراض سياسية راهنة، فحين يقرأ كنافو التاريخ ويوظفه في روايته لم يغب البتة عن عينه وذهنه الحاضر بقضاياه المختلفة..

تبقى الاشارة أن الترجمة العربية لكتاب “صبي من افران” لم تسلم من بعض الأخطاء المطبعية، حيث سقطت عدة صفحات من الكتاب، وظلت بيضاء كما هو الحال بالنسبة الى الصفحات: 138 الى 140 وتكرر نفس الشي في الصفحات من 142 الى 143 وهو أمر نتمنى استدراكه خلال الطبعات القادمة للكتاب، الصادر عن منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بأكادير..

 

ابراهيم اوزيد

[1]  ثورة بوحلاس: ظهرت خلال سنة 1792 في تاسريرت على ساحل ايت بعمران  ودامت ثورته حوالي سبعة أشهر قبل انهزامه في اغبولا بالعوينة في سهل تزنيت. وادعى بوحلاس أنه السلطان المولى اليزيد (1790-1792) الذي لم يمت في نظره وجمع حوله العديد من القبائل وعامة الناس وفقرائهم وكان طموحه هو الوصول إلى السلطة في زمن اشتد فيه الصراع على حكم المغرب وكان مقلدا السلطان المولى اليزيد في كل تصرفاته.
[2]  تعتبر تلك الرواية الأوسع انتشارا في صفوف اليهود، حيث يعتقدون أنهم قدموا من فلسطين للبحث عن المعادن النفيسة خلال فترة ازدهار مملكة يهودا تحت قيادة الملكين داود وسليمان واعتبر المؤرخ الانجليزي كيرkerr أنهم نزلوا في جنوب غرب المغرب بعدما نقلتهم المراكب الفنيقية. ونشأت الكتابات التي اعتمد عليها المؤرخون لهذه الحكاية في وقت متأخر أرجعه لغمائد إلى فترة دخول العرب المسلمين إلى المنطقة بينما قد يكون استقراهم تزامن مع تطور الاستعمار الفنيقي خلال القرنين السادس والرابع قبل الميلاد.

انظر : لغمائد عبد الله، يهود منطقة سوس 1860-1960 دراسة في تاريخ المغرب الإجتماعي، دار أبي رقراق، الرباط، 2016 ص. 31
[3] Jacques meunié, « le Maroc saharien des origines au 16 siècle » », librairie Klincksiek ,Paris, 1982, p: 176
[4]  محمد المختار السوسي، “المعسول” المغرب، الجزء الخامس، ص: 142
[5]  المصدر نفسه ص: 143
[6]  نفسه
[7]  لغمائد عبد الله، م.س.، ص.38

اضف تعليق